ــ3ــ
" ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك "
كلام طيب ودقيق ، فقد تجد مثلاً بلادًا تنعم بغنى كبير ، ورفاهية كبيرة ، والأمور ميسرة إلى درجة مذهلة ، وكل شيء متوافر ، فهذه الدنيا العريضة هي في الحقيقة حجاب بين هؤلاء وبين الله ، وقد تجد مجتمعًا آخر في ضائقة ، وهذه المشكلات تكون لهم دافعًا كبيرًا إلى الله ! فالمجتمعات التي فيها قسوة وضعف ، وفقر وشدة تجد مساجدها ممتلئة ، ودروس العلم عامرة ، والناس ملتفتون إلى الله عز وجل ، فمن أدراك أن هذه الشدة التي ساقها الله لهؤلاء الناس هي سبب قربهم من الله ؟
وهناك رجلٌ عانى من أمراض كثيرةٍ طوال حياته ، فيبدو بساعة مناجاة لله بدأ في نوع من العتاب ، يقول : يا رب أنا لم أرتح يومًا في حياتي ، فما الحكمة من ذلك ؟ هكذا قال لي ، توفي رحمه الله ، قال : وقع في قلبي لولا هذا الحال لما كنت في هذا الحال ! فكل رجل له ظروف نشأ فيها ، وهذه الظروف هي أفضل شيء له ، ولولاها لما كان في هذه الأحوال التي ينعم بها ، وأحياناً ينشأ الولدُ يتيمًا، وليس معه ثمن طعام ، فيدرس ، فيأخذ أعلى شهادة ، فيتألق ويعيش حياة كريمة ، وهناك رجل قوي وغني ، والابن ليس لديه الدافع ليدرس ، وكل شيء موجود ؛ سيارة وبيت ، وطعام ، وشرب ، ومال ، يموت الأب فيصبح ابنَه وراء الناس في المؤخرة ، فبربك هل اليُتم والفقر خيرٌ أم الغنى والدلال ؟ إنّ الغنى والدلال جعله في المؤخرة ، واليتم والفقر جعله في المقدمة ، أليس كذلك ؟ هذا معنى قول بن عطاء الله السكندري : ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ".واللهِ أيها الأخوة ؛ ما مِن آية في القرآن الكريم تهز مشاعر المؤمن كقوله تعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216 دع الأمر لله عز وجل ، واستسلم لقضائه ، وارضَ بما أنت فيه ، واقبَل واقعك، وقل : يا رب لك الحمد الذي أوجدتني ، ولك الحمد الذي أمددتني ، ولك الحمد الذي هديتني ، "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك "، ويوجد آباء ليسوا حكماء في تربية أولادهم ، فيعطونهم كلَّ شيء ، وهذا العطاء غير المعقول وغير المدروس وغير الحكيم سببُ حرمان الأولاد من مستقبل زاهر ، ويوجد آباء بالعكس ، في معاملتهم قسوة ظاهرة على أولادهم ، وهذه القسوة الظاهرة سبب تألق الأولاد في مستقبلهم !
ويوجد حكمة متعلقة بالحكمة السابقة : قال :
ـ 4 ـ
"متى فتح لك باب الفهم في المنع ، عاد المنع عين العطاء" ،
وينبغي لك أنْ توقن أنّ الأشياء التي حُرِمتَ منها لو كشف الغطاء لشكرت الله على حرمانك منها ! وهذا هو الإيمان ، الإيمان معه راحة . وإخواننا الأطباء يذكرون لي أنه كلما تقدم العلم الطبي يكتشف أن وراء معظم الأمراض الشدة النفسية ، فالقلق والخوف والندم ، ومشاعر الأسى كلها وراء أكثر الأمراض ، وأما الذي يرضى عن الله عز وجل فقدْ حقق أول شرط في الصحة النفسية ، وبالتالي للصحة الجسمية . "متى فتح لك باب الفهم في المنع ، عاد المنع عين العطاء " ، ولذلك فالمشكلة أن المصيبة تقع ، والعبرة لا أن تتأكد من وقوعها ، فوقوعها سهل ، فأحياناً يقع زلزال ، وتتناقل وكالات الأنباء أخبار هذا الزلزال ، ويذاع في كل إذاعة ، وينشر في كل صحيفة ، ويُرى في كل الأخبار المصورة ، فهل العبرة أن ترى حوادث الزلزال ، أم أن تفهم حكمة الزلزال ؟ العبرة أن تفهم الحكمة ، والبطولة لا أن تتأكد من وقوع مصيبة ، إنما البطولة أن تعرف الحكمة من هذه المصيبة، والآية الكريمة : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }(سورة التغابن 11)
فمِن حكمة المصيبة ، إذا آمن الإنسان بالله يهدي قلبه.